الأحد، 26 أكتوبر 2014

مجبل الديحاني الدخول في ضوء العتمة

قراءة

لحظة ذوبان الحديد على طرف سيجارة

مجبل الديحاني الدخول في ضوء العتمة



لحظة اقتناص نادرة وبديعة وخاطفة تلك التي يلتقي فيها الإحساس بالموقف والتفاعل معه بصدق واكتشاف أسبابه بوضوح، ثم توفر الوقت للتعبير عنه دون موارب،ه ثم استدعاء اللغة المناسبة للحدث تماما بتسلسل، مع تحقق الترتيب المنطقي المقنع وبمفردات تصويرية دقيقة تخاطب الخاص والعام.. بقضية تلامس الجمهور أو معظمه، وأخيرا أن تتهيّأ للقصيدة الظروف والوسائل التي توصلها للمتلقي
انظر كم من الخطوات المتوالية المتتابعة التي يحتاجه المبدع كي يصل جذوة الشعر، ويستظل بلهيبها الأخاذ
لكن المشكلة أنه عندما يتم ذلك فـتأكد أن الشاعر قد وضع نفسه في مأزق ثقافي كبير.. لأنه يكون قد أنتج قصيدة ربما تكون حجر عثرة في طريقة.. لأنها ستلقى القبول لدى المتلقي والانتشار لدى محبي الشعر فيصبح تعريفه من خلال هذه القصيدة دائما (صاحب قصيدة كذا) وبعد أن يفرح بالانتشار ومعرفة الناس، يسعى لإنتاج قصيدة تفوق أو تعادل في نجاحها نجاح تلك.. لكنه يفاجأ أن الناس وإن قبلت الجديد فإنها ماتزال متمسكه بالقديم.. ويظل تعريفه بالقصيدة ذاتها.. فمساعد الرشيدي حاول تجاوز قصيدة البدايات "سيف العشق" بكل الأشكال، وفي النهاية استسلم لجبروتها وأسمى بها ديوانه الشعري، وهو ذاته ماجعل بدر بن عبدالمحسن يرضخ لضغوط قصيدته الشهيرة أنا بدوي  وإن تحايل في عنوان ديوانه الثاني فأسماه رسالة من بدوي.. وقصيدة بدر بن عبد المحسن هذه هي الدليل الأقوى والبرهان الأدل على سطوة قصيدة من هذا النوع، لأنه الشاعر الذي انتشرت واشتهرت له قصائد لاحصر لها، إن لم يكن من خلاله مباشرة فمن خلال حناجر المطربين ولاحاجة لعد تلك القصائد الكثيرة التي يعرفها له الناس خاصة عبر أصوات مشاهير الغناء، لكن قصيدة أنا بدوي استطاعت شق الصفوف ووصلت بلاواسطة صوتيه وأصبحت مطلب جمهوره في أماسيه الشعرية خاصة في أواخر الثمانينيات.. حتى صار الشاعر وهو يلقي قصيدته يعرف تماما عند أي أبياتها سيصفق الجمور وعند أيها سيشعل الصالة تصفيقا، وفي أي وقفة .. حتى أنه حرص مرات على إلقائها في منتصف وقت الأمسية كي يجدد نشاط المتلقي وتفاعله معه..
كل هذا التداعي حضرني وأنا أقرأ قصيد للشاعر مجبل الديحاني أقدمها كاملة:

ذاب الحديـد مـن اللهب والحـراره
وانا تحت نارك لى سنيـن ماذبـت 

ونارك ماهى نار وبدت من شـراره
نارك تواقد مـن حنايـاى لاغبـت
تشربنى الوحده وانا اشـرب زقـاره
وانفخ على وجه الليالى مـن الكبـت
صرت اشبه بحزنى عمـود الانـاره
انا المضئ بعتمتى كـل ماارتبـت
روتين مزعـج واستيـاء ومـراره
واحساس غربـه لاطرالـى تعذبـت
مرات احس صدرى من الضيق حاره
ماتـوا اهلهـا والعصافيـر والنبـت
ومرات احس قلبى معك فى انكساره
مثل انكسارى بالدعا كـل مااذنبـت
انا الغريب اللى سكـن وسـط داره
وانت الوطن واشوف نفسى تغربـت
قربك خيارٍ لـو ملكـت اختيـاره
ماشفتنى برفـوف هجـرك ترتبـت
ضاعت معاك ايام عمـرى خسـاره
ولاغاديٍ ويـاك شـرّي ولاطبـت
كان آخر اخبـارك تجـي فـى زيـاره
ياليت تدرى يوم موعـدك وش جبـت 

اذكرك قلت: السبت! وطـال انتظـاره
مرت على سنيـن.. ولامرنـى سبـت!

في هذه القصيدة الفذة والخاطفة مثل ضربة صقر لطريدته في الفضاء، يأتي الشاعر مجبل الديحاني بحالة إبداعية متجاوزة وممهورة بموهبة حقيقية وإحساس عال بالكلمة وبالشعر وبالشعرية.. فيكتب بأحاسيس متوقدة كل هذا الهيب المختزل في محب مفارق ينتظر وقد دس كل آلامه في زفرة دخان.. يشربها، فتشربه الوحه، ثم تتداعى ذكريات الحب ومرارته.. حتى تكبر هوة الكهف فتبتلع الحيياة كلها، إذ يضع الشاعر كل العمر في "كبسولة" تصبح هي الماضي والحاضر والمستقبل، حتى يكاد يصبح هذا الحزن هو فرحه الوحيد، وهذا الضياع هو هداه الأوحد، والوجه الغئب عنه.. هو كل الوجوه في الدنيا..
وانت الوطن واشوف نفسى تغربـت
قربك خيارٍ لـو ملكـت اختيـاره
ماشفتنى برفـوف هجـرك ترتبـت
ضاعت معاك ايام عمـرى خسـاره

بل إن الدنيا لاتضيء إلا بالدخول إلى عتمة هذا الاختيار.. وأكثر من ذلك فإن الأيام التي لايكون فيها.. لاتكون!


اذكرك قلت: السبت! وطـال انتظـاره
مرت على سنيـن.. ولامرنـى سبـت!
ما أجمل هذه القصيدة يامجبل.. وما أروع هذا الحزن الجارح.. الكاوي مثل حرارة دخان سيجارة كثيف في صدر موجع وغريب..!

لكني أخشى أن يعاني مجبل من هذه القصيدة طويلا..



0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية